Friday, October 23, 2009

نساء سوريات يعملن في "الظل":

"القبيسيات" يحملن راية الدعوة بتأييد من الدين "الرسمي" و حذر من الدولة "العلمانية"!!


عندما قررت "لينا " ارتداء الحجاب، لم تكن تعلم أن طريقة ربطه ستضايق بعض الفتيات في الجامعة، وأن عقد حجابها بطريقة تبقيه منفوخاً قليلاً من الأمام سيجعلها تنتمي، دون علمها، إلى جماعة نسائية متدينة في سورية تسمى "القبيسيات".
"لينا " الطالبة في كلية الإعلام بجامعة دمشق، قررت تغيير طريقة ارتدائها للحجاب بعد أن قامت إحدى الفتيات "القبيسيات" بتنبيهها خلال وجودها في مصلى الجامعة إلى أنها إذا أرادت إبقاء حجابها بهذه الطريقة فعليها أن تلتزم "بتوابعه"، من حيث لونه الأبيض و ارتداء "المانطو" الكحلي، كما عليها أن تلتزم بالدروس الدينية التي يأخذنها وبتعاليمهن، محذرةً إياها بأن حجابها لوحده لن يشفع لها مع ارتدائها الجينز و الكنزة "العريضة" فوقه.
أخبرتنا أنها ليست الوحيدة التي تتعرض إلى ما اسمته "مضايقاتهن" في الجامعة، حيث أنهن يقمن بتنبيه الفتيات غير المحجبات إذما دخلن مصلى الجامعة ويحاولن تذكيرهن دائماً بأنهن لا يطبقن الدين كاملاً، وأن أجرهن ليس كامل.
"القبيسيات" مصطلح تردد كثيراً في الأوساط الاجتماعية و السياسية السورية مؤخراً..قصد به جماعة من النساء اللواتي يتبعن الداعية السورية "منيرة القبيسي" وينتشرن في دمشق خصوصاً وباقي المحافظات السورية و كذلك بعض الدول العربية حتى أنهن وصلن إلى بعض العواصم الأوروبية و بعض الولايات الأميركية.
تضاربت الآراء الدينية كثيراً حول توصيف منهجهن الديني بشكلٍ محدد، بين من يتهمهن بتشكيل "تنظيم سري خطير" وبين من يشيد بدورهن الديني الدعوي، في "فعل ما عجز عنه الرجال"، إلا أنهن، وحسب تعريف بعض رجال الدين السوريين الكبار يعتبرون حركة دينية وسطية تلتزم بمنهاج أهل السنة ولا تتبنى منهجا فقهيا معيناً.
ولم يكن رجال الدين فقط هم من اختلفوا حول طبيعة هذه الجماعة النسائية، إذا صح التعبير، إذ أن السوريين وخاصةً السوريات كانت لهم مواقفهم المختلفة منهن تراوحت بين السلب و الإيجاب و الحياد حسب طبيعة الموقف الذي جمعهم بهن.
موقف "لينا" المائل إلى السلبية منهن والناتج عن اصدامها معهن، أكدته "نيفين" التي روت لنا كيف أن بعض الطالبات "القبيسيات" قمن بطردها من مصلى الجامعة بعد أن أسمعنها كلاماً جارحاً شكك بإيمانها و تدينها، لأنها لا ترتدي الحجاب، وأخبرتنا أنهن دائماً يحاولن مساعدة بعضهن، و التكتل مما يمنع الطالبات الأخريات من الانخراط في "شلتهن" الجامعية، والتي غالباً ما تكون مؤلفة من فتيات، مع أنهن يتعاملن مع الشباب ولكن بحدود، وأنهن يعملن عن طريق ذلك إلى استقطاب الفتيات الأخريات اللواتي يلمسن فيها أنها ستكون جزءاً منهن، والتي يخترنها على أساس غير واضح لنا على الأقل "نحن غير القبيسيات".
وتضيف "نيفين" "القبيسيات في كليتنا يتعاملن مع باقي الطالبات عند الضرورة فقط، ويقبلن أي مساعدة نقدمها لهن، لكنهن لا يبادرن بالمساعدة، ولا يؤذيننا أيضاً، فهن متكتلين يفسحن المجال للتعامل مع خارجهن بحدود، ولكن إذا ما قاموا بالحصول على توقعات أسئلة لمادة ما، أو أسئلة "الأتمتة" التي تتكرر سنوياً ولا توزع للطلاب، فإنهن يرفضن إعطاءها لغير القبيسيات، و يتكتمن عليها بسرية شديدة".
كلام الفتاتين تشابه مع كلام فتيات عديدات احتككن بشكل مباشر وغير مباشر مع "القبيسيات" ليس في الجامعة فقط، بل في مؤسسات و دوائر و شركات أخرى سواء كانت حكومية أو غير حكومية، إذ أكدت معظم اللواتي تحدثن إليهن، على التكتل الشديد في التعامل بينهن، وعلى أن أغلبهن لا يهاجمن المختلفات عنهن، ولكنهن يحاولن بشكلٍ أو بآخر إلى دعوة الفتيات ليصبحن منهن إذا ما استطعن، أو إذا انطبقت المواصفات التي وضعنها للفتاة المناسبة على إحداهن لتصبح "قبيسية" حسب ما قال البعض.
عشرات النساء السوريات اللواتي توجهن لهن بالسؤال عن القبيسيات و ما الذي يعرفنه عنهن، إجاباتهن تراوحت بين معلومات "ضبابية" وغير واضحة، وأخرى مشوهة تقترب من الأساطير عن أنهن ساحرات و ما إلى ذلك.. ولكن السؤال الذي أرادت الأغلبية التوصل إلى إجابةٍ عنه هو: من هن "القبيسيات"؟.. ولماذا هذه السرية المنسوجة حولهن؟.. لماذا لم نر حتى اليوم "قبيسية" واحدة تحاول الدفاع عبر وسيلة اعلامية مثلا عن هذه الجماعة على الرغم مما قيل لتشويه سمعتهن؟.. لماذا "أغمضت" الدولة عيونها عنهن وقد أصبحن شبه تنظيم وهذا أمر ممنوع في سوريا؟..
أسئلةٌ كثيرة طرحت علينا وروايات مختلفة سمعناها، بعضها كان معقولاً و الآخر غير منطقي.. وطلب منا نفيها أو إثباتها..لذلك حاولنا العمل على إيجاد إجابة من خلال دخولنا إلى أماكن وجودهن حتى المساجد التي يترددن إليها، وسؤال جميع الأطراف المتابعة لنشاطهن.

فُصلنا.. لأننا سألنا كثيراً!!

بعد محاولاتنا في البداية التحدث إلى إحدى "القبيسيات" وجها لوجه، سواء من العضوات الجدد أو القديمات، ورفضهن القاطع للتحدث مع الصحافة، توجهنا للحديث مع بعض الفتيات اللواتي كنا منتميات "للجماعة"، لكنهن تركن، وكانت تلك المحاولة في بداية عملنا، حيث أخبرتنا "رشا" أنها عندما قدمت من السعودية للدراسة في الجامعات السورية وضعتها أمها في بيت للطالبات تديره صديقة والدتها، ولكنها فوجئت بالطريقة التي يعشن بها، حيث يستيقظن مع آذان الفجر، فيتوضأن ثم يصلين، وبعدها يقرأن القرآن، وتبدأ كل شابة منهن باستلام مهامها المنزلية، حسب الجدول الذي قد وزع مسبقاً بما يتناسب مع دوام الطالبات في الجامعة.
و تتابع "رشا" شارحة بأن طريقة العمل في ذاك المسكن تختلف عن الطريقة الشائعة عند الجميع، فالفتيات يلبسن داخل المنزل البنطال القطني و القميص نصف كم وفوقه قميص نوم كم طويل صيفاً شتاءً، ويضعن غطاءً خفيفاً على الرأس، كما أنهن يكنسن المنزل بعدد مرات معينة و يجلين الصحون كذلك، حتى يتم تطهيرها تماماً، كما أنهن يغسلن الرز بطريقة معينة ليصبح طاهراً.. كل ذلك في جميع تفاصيل حياتهن، وأن المنزل لا يحوي تلفاز أو راديو أو أي شيء و أن صوت تلاوة القرآن هو الصوت الوحيد الذي يسمح سماعه، وأن الفتيات عليهن أن يعدن في وقت محدد لأن المنزل لا يستقبلهن بعد ذلك، أشبه بالسكن الداخلي لكن مع قوانين صارمة، وأن أغلب الفتيات في هذا المنزل هن من السوريات اللواتي يسكن أهلهن في الخارج، وأن تعاليم القبيسيات هي التي يطبقنها، ليصبحن بذلك قبيسيات سواء أرادوا أو لم يردن، لأن عدم التزامهن بالتعاليم يعني عدم بقائهن في المنزل، والأهل لن يرضين أو لن يجدوا لابنتهن مكاناً أصلح من هذا يتماشى مع العادات و التقاليد و حتى تعاليم الدين، وتركز القبيسيات على التأكيد على أن المرأة لا تشبه الرجل، ويبعدنهن عن المبادئ التي ينادى بها من مساواة بين الجنسين و غيرها...
وتضيف "رشا" و التي كانت ترتدي "جاكيت" بني اللون و بنطال الجنيز، أنها كانت تلاحظ أن المعلمة المسؤولة عن المنزل، تعامل بشيء من القداسة، وأن أوامرها تنفذ بحذافيرها من دون نقاش، وأن الفتيات اللواتي كن يسكن المنزل من الأغنياء ولم يكن هناك من الطبقات الفقيرة، على الرغم من أجرة المنزل الرمزية التي كانت تؤخذ مقارنة بالآجارات، وأنها عندما سألت عن سبب هذا الوضع، قوبلت باستهجانٍ من المعلمة، ثم طلب منها المغادرة بعد أن أعلنت أنها لا تريد أن تقوم بما يفعلن من طقوس " جديدة "خارجة عن الفروض الدينية، و بعد ذلك تصمت رشا و تختم حديثها قائلة:"حاولوا أن يلغوا عقلي و يوقفوه عن التفكير!".

لا يقتصر تواجد القبيسيات في مجال التعليم على امتلاكهن بيوتاً لسكن الطالبات، يفرضن فيها عقيدتهن و شروطهن الخاصة، و حسب احصائيات شبه رسمية حصلنا عليها، تمتلك "القبيسيات" نحو 40 مدرسة تتبع بشكلٍ أو بآخر للشيخة منيرة القبيسي من أصل نحو 80 مدرسة خاصة، تنتشر في جميع الاحياء الدمشقية، تعمل فيها أكثر من 75 الف امرأة ومربية "قبيسية"، تقع في أرقى مناطق مدينة دمشق، تدرس منهاج وزارة التربية السورية، لكنها تركز على حصص التربية الدينية بشكل أكبر ويتم من خلال هذه المدارس دعوة الطالبات الجدد، ممن تقرر المدرسات أنهن يصلحن ليكن منهن.
ومن أشهر مدارسهن حسب تلك الإحصائيات مدرسة "البوادر" في منطقة كفرسوسة وهي أكبرها، ومدرسة "دار الفرح" في منطقة المهاجرين و"دار النعيم" و"مدرسة عمر بن الخطاب" في المزة و"عمر عبد العزيز" في الهامة و"دوحة المجد" في المالكي و"البشائر" في المزة.
وعن طريق هذه المدارس استطعن إقناع الشابة "لين" بالانتساب لهن، إذ أخبرتنا أنها انتسبت إلى القبيسيات بإرادتها بعد أن دعتها معلمتها في المدرسة هي و صديقتها لحضور دروس الدين في منزلها، وأن المعلمة أخبرتها أنها ذكية و جميلة و عليها أن تشكر الله أكثر و تتقرب منه لأنه وهبها هذه الصفات، تقول "لين" :"عندما دعونني كنت في مرحلة عمرية يحاول كل إنسان فيها التمسك بالدين و المبادئ، لذلك وجدت فيما كن يقلنه شيئاً عظيماً، وأحسست بشيءٍ من الرهبة عندما كنت أدخل دروس الدين في منزل معلمتي، التي كان لها وجهٌ ملائكي، وطريقة كلامٍ رائعة، حتى أن حبي لها هو الذي دفعني لحضور الدروس أكثر من الدروس نفسها، فلقد كنت متعلقة بها بشكل مرضي، وأن كل ما تقوله منزّل ولا أخالفه".
وتصف لنا أنها عندما دخلت منزل معلمتها في الدرس الأول لم تكن المعلمة هي التي تعطي المحاضرة، بل معلمة أخرى، كانت تجلس على كرسي أعلى بقليل من الباقي، وتقوم بإعطاء فتاوى، وتحلل و تحرم وتخبرنا:"كل ما كان يشغلني أن معلمتي تستحق المكان أكثر من الأخرى، وتفاجأت عندما سمعت المعلمة الجديدة تقول أن علي ارتداء الحجاب، عندها قالت معلمتي أنني سأرتديه عما قريب، عندما أصبح جاهزة لم افهم قصدها و سألتها كيف؟ فلم تجب ثم بعد الدرس سألت معلمتي عن كل ما قالته المعلمة الكبيرة، ولماذا تحدثت عن كيفية تطهيرنا لأنفسنا و ثيابنا بدل أن تحدثنا عن أمور الدين الأخرى، لم تجب المعلمة و بعد جلستين رافقتهما أسئلتي المتكررة قالت لي المعلمة أن لا أذهب بعد اليوم للدروس لأنها ألغتها، ثم عرفت أن الدروس ما زالت مستمرة من صديقتي، فكرهت المعلمة و كرهت القبيسيات وأقنعت أمي أن تنقلني من المدرسة".
وتضيف الشابة أن المعلمات القبيسيات لسن متعمقات بأمور الدين كثيراً وأن أي شخص عادي بثقافة دينية عادية إذا تناقش مع إحداهن أربكها، وأنهن يقضين جلساتهن بإعطاء الفتاوى لقشور الدين و الأمور البسيطة ولا يتطرقن للأمور العميقة مخافة الخطأ، وأنهن شديدات الاحترام للمعلمة الكبيرة و أن ما تقوله مقدس حتى أنهن يتمسحن بها أحياناً "للبركة"ويقبلن يدها، وأن لديهن طريقة إقناع مذهلة و أسلوب و قوة شخصية تجذب الفتيات، كما يعملن على زرع هذه الأمور في نفس الفتيات القبيسيات جميعاً، لكن دون استخدام هذه القوة في الشخصية مع المعلمة أو مناقشتها أو معارضتها لأن "من قال لشيخه لم ..لم يفلح أبداً" حسب قناعاتهم، وهي كي لا تعرض الطالبة شيختها للإرباك، في حال سألتها سؤال، وعجزت عن الإجابة عليه، لثقافتهن الدينية الضحلة.

أكثر من أربعين مسجدا يدرسون فيها و يمكن حضور السافرات

تشجع "القبيسيات"على العمل و أخذ الفرص و الخروج إلى المجتمع و تقوية الشخصية من أجل التميز من الناحية العملية، وهن مخلصات في عملهن كثيراً، ويعملن بكل تفانٍ، أغلبهن يمتلكن شخصية مؤثرة و جذابة تجعل الأخريات يتعلقن بهن، ولديهن قدرة هائلة وأسلوب قوي على الإقناع، خاصةً الآنسات منهن.
مما جعل أغلب "القبيسيات" الكبيرات "عوانس" غير متزوجات بسبب المبادئ التي يتربون عليها من قسوة و انضباط و حزم في كل الأمور و الاهتمام بالدين و التعليم، الأمر الذي يبعدهن عن مسألة الزواج، أو أن هذه القوة الزائدة في الشخصية تجعلهن يستصعبن مسألة الخضوع لأوامر زوج مهما كان.
و تشير معلومات حصلنا عليها من جهات شبه رسمية إلى ارتفاع نسبة الطلاق في أوساطهن بسبب انشغالهن عن بيوتهن، أو لأن الآنسة، أحياناً قد تفسر بعض التصرفات التي يقوم بها أزواج البعض تفسيراً يبعدهم عن الشرعية، مما يتوجب على "القبيسية" ترك زوجها، لأنه لا يحل لها أن تبقى مع زوج غير متدين، فالآنسة تعرف أكثر منها، وكلامها "مقدس" لا يخالف، مهما كان، حتى لو طلب "الموت" من الطالبة.
و أضافت تلك الجهات شبه الرسمية إلى أنهن قد يساهمن في تدبير زيجات عديدة لطالباتهن، حيث يخترن من يروه مناسباً لإحدى الفتيات، ويحاولن في كثير من الأحيان الحفاظ على النسب العريق أو الميراث من خلال هذه الزيجات، ويعود لهن الفضل في كثير من الزيجات التي حصلت بين العائلات الراقية و المعروفة في دمشق، منذ فترةٍ طويلة، إذ أن تاريخ "القبيسيات" لا يعود إلى فترة قريبةٍ، أي فترة ظهورهن إلى العلن، فتواجدهن أقدم من ذلك بكثير على الرغم من عدم وجود تاريخ محدد لبداية دعوة منيرة القبيسي، وهي من مواليد عام /1933/ ، وبحسب بعض السيدات اللواتي تحدثن معهن ممن هن في عمر "منيرة القبيسي"، لكن دعوتهن في الفترة السابقة اقتصرت على حلقات التعليم في المنازل بشكل سري، كما أنها شملت بنات العائلات الراقية والمعروفة في دمشق فقط، وأن أشهر تلميذات "منيرة" قد أسسوا جماعاتهن الخاصة في لبنان و الأردن منذ زمن و اللواتي عرفن بـ"السحريات" في لبنان نسبةً إلى "سحر حلبي" و "الطباعيات" في الأردن نسبةً إلى "فادية الطباع".
إلا أن فترة ظهورهن بشكلٍ علني، والذي كان منذ ما يقارب الثلاث سنوات، جاء بناءً على طلبٍ من بعض السلطات الدينية المقربة منهن، لكي يخرجن إلى العلن بعد أن ذاع سيطهن، ولتتأكيد على أن دعوتهن دينية بحتة، كي لا يصطدمن مع الجهات الأمنية من جهة، وليخففن من حدة "اللغط" الذي أثير حولهن من جهةٍ أخرى، لذلك عملت هذه الشخصيات الدينية "المقربة من السلطة"، كما يطلق عليها، إلى التوسط عند الجهات الأمنية للسماح لـ"القبيسيات" بالخروج إلى المساجد و إعطاء دروسهن من على منابرها.
واليوم في دمشق هناك أكثر من أربعين مسجداً لـ"القبيسيات" في أحياء دمشق الراقية، من أصل ما يقارب المئة وخمسين مسجد في هذه الأحياء، أهمها جامع "الوزير" في حي المهاجرين، جامع "الأبرار" في منطقة مشروع دمر وجامع "الرحمن" في المزة فيلات غربية.
تعقد "القبيسيات" حلقات تدريس بشكلٍ دوري في هذه المساجد، تدرسُ فيها أكثر من أربعين داعية قبيسية مرخص لهن للعمل في المساجد، ومن أهمهن: "نهيدة طرقجي"، و"أميرة جبريل" شقيقة الأمين العام لـ"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- القيادة العامة" أحمد جبريل، و"درية العيطة"، والدكتورة "سميرة الزايد" التي الفت كتاب "الجامع في السيرة النبوية" في عشرة أجزاء وكتاب "مختصر الجامع" في جزأين في منتصف التسعينات. وهناك أيضاً الشيخة "سعاد ميبر" التي تدرس في معهد "الفتح" التشريعي وصاحبة كتاب "عقيدة التوحيد من الكتاب والسنة".
والأمر اللافت إلى أن بعض حلقات هذه المساجد يمكن حضورها من قبل السافرات كالحلقات التي تعقد في جامع "الوزير" والتي دخلناها لحضور أحد الدروس فيها من دون وضع حجاب، فعندما تدخل القاعة لا يمكن أن تسمع سوى صوت قراءة القرآن الكريم، من قبل بعض الطالبات اللواتي وصلن مبكراً، ثم يخيم صمت مفاجئ بعد دخول الآنسة، التي تلقي السلام على الحاضرات، لتعتلي مكانها وتبدأ درسها، تصمت الحاضرات بشكل تام ولا يسمع أي همسٍ جانبي على الإطلاق سوى بعض الصلوات الجماعية على سيدنا محمد أو كلمات مثل آمين..، ويعتبر هذا الهدوء جزءاً من الاحترام للآنسة التي تقوم بطرد أي فتاة تلاحظ عدم إنصاتها الكامل إلى خارج الحلقة.
في الدرس الذي حضرناه كان مخصصاً لتدريس جزءٍ من كتاب "نساء حول الرسول" هو أحد أهم الكتب التي تعتمد القبيسيات في تدريسهن عليه، بالإضافة إلى كتاب "رجال حول الرسول" و"فقه العبادات لـ"درية الخرفان"، وجميعها كتب تباع في أي مكتبة في سوريا، وبعد انتهاء الدرس الذي كان من المستحيل تشتت الانتباه خلاله، ليس خوفاً من الطرد خارج الحلقة، بل لأن أسلوب الآنسة و طريقة إلقائها وقوة شخصيتها تجعل المستمعة تنجذب إلى كل كلمة، ولا تحاول تفويت شيءٍ مما تقوله المعلمة، التي يعكس حديثها الواثق سعة علمٍ و إطلاعٍ ودين، وبعد انتهاء الدرس تبدأ الطالبات بسؤال الآنسة أسئلة مختلفة حول الدرس أو خارجه عن أمور الدين، ولكن الملاحظة الأهم هي أن الآنسة عندما كانت تسأل عن أمر ما إذا ما كان حلالاً أم حراماً، فلم تكن تعطي إجابة فيها اجتهاد عما هو معروف، بعكس ما يشاع عنهن بأنهن يحللن و يحرمن و يصدرن الفتاوى، والاجتهاد في إجاباتها اقتصر على الأمور التي تتعلق بالعبادات و تفسير القرآن الكريم أو بعض الأحاديث الشريفة، خاصةً للطالبات المبتدئات، وكانت تؤكد على تطبيق شريعة الله كما وردت دون أية إضافات، والفتاوى أو النصائح التي كانت تقدمها تتعلق ببعض المسائل الاجتماعية و مسائل الطهارة و التدنيس ...إلخ.
لم نكتف بحضور درس جامع "الوزير" لأنه قد تكون الدروس فيه أكثر اعتدالاً من غيره، نظراً لأنه يسمح بدخوله للسافرات، لذلك ارتدينا الحجاب و المانطو ودخلنا إلى جامع آخر، لحضور حلقةٍ أخرى.
لم تختلف الأجواء العامة للدرس عن سابقه بأي شيء، سواء المادة المدرسة أو الصمت الشديد الذي يخيم على المكان، والذي يوحي بشيءٍ من القداسة للدرس، إلا ان الاختلاف الذي شعرنا به كان من قبل الطالبات الحاضرات في المسجد، واللواتي لم يرحبن بحضور عضوةٍ جديدة إلى حلقتهن، الأمر الذي ظهر من خلال عدم تعاملهن معنا، حتى بعد الدرس، الأمر الذي أرجعناه إلى أنهن جميعاً من "القبيسيات"، كما بدا من زيّهن، ولم نكن كذلك كما كان واضحاً.
لم تكن جميع القبيسيات في المسجد يرتدين اللون نفسه، وإن تشابهت ملابسهن، فلقد كان بعضهن يرتدين الحجاب الأبيض مع "المانطو" الكحلي، وأخريات يرتدين الحجاب الأزرق الغامق مع "المانطو" الكحلي أيضاً، وأخريات يلبسن حجاباً و"مانطو" أسودين، وقليلات منهن، حتى أنهن لم يكن سوى اثنتين مع الآنسة، كن يرتدين السواد ويضعن ما يشبه الخمار والذي كان معقوداً من فوق الفم عند دخولهن.

النظام الصارم.. والاحترام الشديد..أساس تجمعهن!!

وعندما تساءلنا عن سبب الاختلاف في الزي، أخبرتنا إحدى القبيسيات في المسجد، أن الطالبات "القبيسيات" الجديدات يستطعن ارتداء أي لون لـ"المانطو" مع الحجاب الأبيض الذي يعقد من الأمام، إذا كانت صغيرة في السن، و الحجاب الأبيض و "المانطو" الكحلي يعني أن "القبيسية" هي معلمة ولكنها صغيرة بالعمر، ثم بعد أن تتم "القبيسية" مرحلة محددة من التعليم وتصبح على دراية بنواحٍ محددة من أمور الدين و العقيدة وتحفظ أكبر جزء من القرآن الكريم، تستطيع أن تنتقل إلى المرحلة التي تليها أي ارتداء "المانطو" الكحلي والحجاب الأزرق الغامق مما يدل على أنها معلمة ولكنها كبيرة بالسن قليلاً ، ثم تتقدم دينياً و تنتقل إلى الحجاب و "المانطو" الكحليين مما يدل على أهميتها العلمية، وبعدها الحجاب و"المانطو" الأسودين مما يعني أنها "حجة" ويجب أن تكون قد حفظت للقرآن الكريم تماماً، ثم تنتقل إلى مرحلة ارتداء الحجاب المعقود فوق الفم، ولكن هذه المرحلة هي متقدمة جداً والقليلات فقط من يرتدينه، ويتطلب ذلك موافقة من الآنسة الكبيرة، ثم صمتت، فسألناها من تقصد بالآنسة الكبيرة؟، عندها صمتت وقالت لنفسها بصوت مسموع: "الله يجمعني فيها"، ثم استأذنت بتهذيب، وانصرفت.
حاولنا جاهدين التقرب من "القبيسيات" من خلال الحضور المتكرر لبعض الحلقات، ولكنهن رفضن جميع تودداتنا التي قدمناها للتواصل معهن، رافضين الإجابة عن أي سؤالٍ يطرح عليهن سواء بشأن "جماعتهن" أو غيره، إلا أن إحداهن وافقت على الإجابة على بعض أسئلتنا بعد أن نشأت معها علاقة ودية بمضي ثلاثة دروسٍ، فبدأت الشابة تروي لنا القصص الكثيرة عن عظمة هؤلاء النسوة، والأمور الجيدة التي يقمن بها، وأن كيفية تعامل القبيسية اجتماعياً وليس دينياً فقط يؤثر على ارتقاء مرتبتها، فالتي تقوم بجمع التبرعات للفقراء أو تحاول مساعدة المحتاجين بأي شيء ترتفع مرتبتها في الجماعة أسرع من غيرها طبعاً مع إتمامها تعلم الأمور الدينية، كما أنهن يعملن على تحفيظ الأطفال للقرآن الكريم، حتى لو لم يفهموا معناه حالياً فسيفهمونه عندما يكبروا.
وأخبرتنا الشابة أن "القبيسيات" منظمات جداً، وهذا الذي ما زال يحافظ على تواجدهن، كما أنهن يحترمن بعضهن البعض ومراتب بعضهن البعض، فلا تتجاوز طالبة آنستها مهما بلغت من دراية وعلم في الدين، ولا يمكن لآنسة في يوم من الأيام أن تكون طالبة في حلقة إحدى طالباتها، ولكن الطالبة تستطيع أن تصبح آنسة على فئة أخرى، وأن كل آنسة تستخدم أبرز صفاتها لاستمالة فئة محددة، فالتي تتمتع بقدرة على التعامل مع الأطفال تستقطب الأطفال، والتي قادرة على التعامل مع المراهقين تختص بهذه الفئة هكذا حسب قدرة كل واحدة و درايتها و أسلوبها في الإقناع.
وتضيف أن "القبيسيات" يعلمن الفتيات استثمار وقتهن بشكل مفيد، ولا يتوانين عن تقديم أي نوع من المساعدة مهما كانت، المهم هو البقاء معاً و تقوية الإيمان و الدين.
حديثنا مع الطالبات فتح أسئلة جديدة لا يمكن الحصول على إجابتها إلا من قبل إحدى الآنسات، لذلك استمرينا في البحث من أجل الوصول إلى إحداهن، حتى استطعنا لقاء إحدى الآنسات التي قبلت الحديث معنا شرط عدم ذكر اسمها، بعد أن أقنعناها بأن حديثها معنا هو لمصلحة الجماعة، وأنهن يستطعن الرد على جميع من يحاول تشويههن.

حاولوا تشويهنا..لأن عمل الخير لم يعد موجوداً!!

بعد أكثر من عشرة مواعيد غيرتها الآنسة، تمكنّا من الذهاب للقاء الآنسة في منزلها في أحد أحياء دمشق الراقية، والذي كان أشبه بمسجد عن أنه منزل، بسبب الخشوع والصمت اللذان يسيطران عليه، و على تلك اللوحات "الدينية" الموزعة في الصالون بشكل أنيق، وكانت احد شروط لقائها هو ارتداء الحجاب و "المانطو"، كما تبينا من سؤالها الأول عند ترتيب اللقاء: "هل أنت محجبة؟".
وبعد أن اطمأنت الآنسة لنا، بدأت حديثها معنا بتعريف "القبيسيات" بأنهن مجموعة من النساء المسلمات اللواتي يحاولن تثبيت الدين في المجتمع، والعودة إلى بناء مجتمع صحيح و سليم دينياً، والعودة إلى ترسيخ الأسس الدينية، هن لسنا تنظيم ولا منظمة لا علاقة لهن بالسياسة ولا يسعين إلى أي مكاسب سياسية.
وتحدثنا الآنسة بعد ابتسامةٍ خفيفة ملؤها الوقار: "نحن القبيسيات لا نسعى لا إلى مكاسب مادية و لا دنيوية، فبعض الأخوات يدفعن من جيبهن الخاص في سبيل مساعدة الآخرين و نشر الدين الصحيح في المجتمع، نحن نعمل من أجل الآخرة، ونساعد النساء على ملئ أوقات فراغهن بما ينفع دينهن و دنياهن، فبدلاً من أن تتسلى السيدة بالنميمة، نعلمها كيف تشغل وقتها بقراءة القرآن الكريم، والاهتمام بالأمور الدينية".
وتتابع لتخبرنا أن مجموعتهن ليست سرية فهن يعطين دروسهن في المساجد، وتستطيع أي فتاة حضورها، ولكنهن يرفضن الظهور إلى العلن لأن الدين لا يسمح للنساء بالقيام بمثل هذه الأمور، لذلك رسمت هذه الهالة من الغموض حولهن، ولكنهن لا يفعلن شيء سوى تطبيق الشريعة.
وتشرح لنا أن مسألة اللباس و اختلافه، الذي يعتبر إشارة تنظيمية، ما هو إلا لباس ديني محتشم تتبدل ألوانه للدلالة على المرحلة الدينية التي وصلت لها "القبيسية"، كي تنال قدرها من الاحترام، منعاً من وقوع الخطأ من قبل الأخريات أو عدم إعطائها حقها لعدم درايتهن بقيمتها الحقيقية، وإذا تمعنا أكثر في هذا اللباس لوجدناهُ جزءاً من لباسنا الدمشقي أو السوري المحتشم ليس إلا.
وتضيف بعد ابتسامة استهزاء: "القبيسيات" لا يقدسن "شيختهن" كما هو شائع، فالمتدينات لا يقدسن غير الله، بل أنهن يعاملنها باحترامٍ شديد، نظراً لمكانتها الدينية وعلمها، وهي لا تعطي الفتاوى بل تُسأل وتجيب حسب معلوماتها، لكنها لا تحلل ولا تحرم كما يقال.
وتوضح الآنسة أن المجموعة لم تنتشر في وسط النساء الغنيات فقط، والتركيز ليس عليهن فقط، ولكن تواجدهن بكثرة بينهن ووصولهن لمراتب الشيخات الكبيرات، جاء نظراً لكون العمل كان غير معروف للعلن في فترة سابقة، لأسبابٍ أمنية، مما جعل الدعوة تتم شفهياً عن طريق المعارف و صدف أن كانت المدعوات في الفترة السابقة هن من الميسورات أو من العائلات المعروفة في دمشق، تبعاً للطبيعة الاجتماعية للنساء اللواتي قمن بالدعوة فهن دمشقيات ومن عائلات معروفة، واليوم عندما عرف الجميع أصبحت الحلقات تضم نساء و فتيات من مختلف البيئات و الجنسيات و الأعمار و الطبقات الاجتماعية و الفكرية و الثقافية.
وختمت الآنسة لقاءها معنا بقولها أن جميع ما أثير عن موضوعهن سببه ما يحاولن إصلاحه، ألا وهو دين الناس، فالناس اليوم لم يعودوا يصدقوا وجود أشخاص يقومون بفعل الخير من دون غاية أو هدف مادي و منفعة، وجميع المحاولات لتغيير هذه الفكرة لن تجدي نفعاً في زمنٍ أصبحت فيه المصالح هي المحرك الأكبر لكل ما يقوم به الإنسان.
ودعنا الآنسة وشكرناها على حسن استقبالها وتوجهنا إلى الجهات الحكومية مباشرةً لنتعرف وجهة نظرهم بالكلام الذي دافعت به "القبيسيات" عن أنفسهن.

طلب من الجهات الأمنية عدم التعرض لهن.. ومراقبتهن من بعيد!!

بعد اتصالاتٍ عديدة وافق مصدر يملك معلومات أكيدة، عن ما يطلقون عليه "ملف القبيسيات" الحديث معنا، ولكنه طلب منا عدم ذكر اسمه أو حتى الإشارة إليه في التحقيق بـ"مصدر مطلع" أو "جهة مسؤولة".
الرجل الذي بدا مريحاً جداً خلال لقائنا الأول، بدأ يشرح لنا جميع المعلومات التي يعرفها عن "القبيسيات" حيث اعتبر أنه لا يمكن تعريفهن بأنهن تنظيم لأنهن لسن كذلك، مع أنهن يملكن كافة صفات التنظيم، فهن كتلة من "التناقضات"، حسب وصفه، فهن لا يملكن مناصب إدارية أو هيكل تنظيمي مفصح عنه و واضح بشكل جلي حتى للأعضاء أنفسهم بل إنما يتبعون العادة و التقليد في تسيير شؤونهن.
هن جماعة كتومة ولكن ليست سرية، فالجماعة الكتومة هي التي تعمل بالسر عن المجتمع دون المساس بالأمن، أما الجماعة السرية هي التي تعمل بالسر عن سلطات الأمن ولها تأثير امني " تأخذ صفة حزب أو ما شابه"، كما أن عددهن غير معروف لأنهن يزددن باستمرار، بسبب العلاقات الاجتماعية، فإذا كانت الأم من القبيسيات، فمن المؤكد أنها ستدعي ابنتها وهكذا...
ويتابع المصدر كلامه ليعطينا تعريفاً دقيقاً لـ"القبيسيات"، حسب ما يراهن رجال الأمن، بأنه يمكن وصفهن بالجماعة الدينية المتصوفة غير التكفيرية، تعتمد منهج ديني معتدل، ولا تحلل أو تحرم، تهتم بالعبادات وتفسير وتطبيق شريعة الله كما وردت دون أية إضافات، سوى بعض الاجتهادات فيما يخص بعض المسائل الاجتماعية و مسائل الطهارة و التدنيس ...إلخ.
وبعد حديث مطول أعطانا خلاله الرجل معلومات كثيرة، كنا قد حصلنا عليها من "القبيسيات" أنفسهن، وبعد لقاءاتٍ متكررة، أطلعنا على أنه رغم أن الدروس الدينية في المنازل ممنوعة، إلا أن أغلبية دروسهن تتم في منزل إحدى الداعيات أو الآنسات، وأنهن يقمن بتغطية هذه الدروس بالمناسبات الاجتماعية مما يجعل الأمن عاجزاً عن إيقافهن أو منعهن، فالأمن لا يستطيع منع أي سيدة أو آنسة من دعوة صديقاتها إلى منزلها لقراءة القرآن أو حتى إلى "مولد" بمناسبة نجاح أو فرح أو غيرها، كما أن استقطابهن لأغلب نساء المسؤولين و السياسيين و المتنفذين جعلهن محمياتٍ من المساءلة بشكلٍ شبه كامل.
و قال المصدر بأنه علم من مصادر موثوقة أنه عندما استدعيت إحداهن للتحقيق، اتصل أحد المسؤولين المهمين جداً جداً، وأمر بالإفراج عنها فوراً، دون استكمال التحقيق، وبعدها تم أمر الجهات الأمنية بعدم اعتقال أي منهن أو التحقيق معها، و الاكتفاء بمراقبتهن من بعيد.
ويتابع الرجل حديثه ليكشف لنا عن جانبٍ آخر من "غموض القبيسيات" إذ ليس لديهن ميزانية معروفة أو تمويل محدد و ظاهر للعيان من قبل جهة معينة، ولكن إذا أردن أي مبلغ، يستطعن جمعه خلال ثوانٍ، و بمكالمة هاتفية واحدة حتى لو وصل المبلغ إلى ملايين الليرات.
ويشرح لنا أن هذه الأموال تأتي من كون أن أغلب القبيسيات هن بنات أو زوجات أو أخوات بعض المسؤولين و المتنفذين و أصحاب الأموال و المتعلقين بصنع القرار، وهؤلاء يقدمن المساعدة لهن لأنهن يحصلن على فائدة من نوعٍ آخر، كتسهيل التعامل بينهم، والتخطيط للصفقات التجارية والأعمال، وتسهيل بعض المعاملات، من خلال استثمار هذه العلاقات الواسعة، فواجب "القبيسيات" مساعدة بعضهن، كما أنهن يدبرن زيجات بعض العضوات، لـ"تمرير" بعض المصالح بين العائلات و المسؤولين، أو يستفيدوا من تقليل "نفقات الزكاة".
ولكن الرجل يوضح لنا أن الفائدة ليست دائماً غير مشروعة، فمثلاً عندما يوزع شخص بارز هدايا على بعض القبيسيات أو يدعمهن مالياً ذلك إما ليستر نفسه اجتماعياً أو لكي يساعد الناس عن طريقهن...إلخ، فالمنفعة قد تكون سياسية " كدعم الانتخابات"، أو اجتماعية أو اقتصادية.
وأكد لنا أنهن لا يعملن في السياسة أو يتدخلن بها حتى في دروسهن، ولا يسعين إلى تغيير النظام أو إجراء انقلاب، كما أن لا علاقة لهن بجماعة "الإخوان المسلمين" المحظورة في سوريا، وأن أي شيء قد يورطهم في أمور المعارضة أو ضد الدولة يبتعدن عنه مباشرةً، إلا أن لديهن تأثيراً كبيراً في الحياة السياسية من خلال دعم أشخاص في الانتخابات أو المعاملات و تسهيلها، و لهم دعم كبير من قبل أشخاص مهمين جداً في الدولة.
وبعد عدة لقاءات سمعنا وجهة نظر الدولة بـ"القبيسيات" كان لابد من أن نسأل مصدرنا "إذاً لماذا هذا الاهتمام الكبير بهن؟ وما الخطر الذي يشكلنه بعد تأكدكم من اتجاهاتهن؟"
فأجابنا انه حالياً لا خطر منهن، و لكن يخاف منهن، لأنهن يشكلن بداية لتنظيم كامل بشكل "علني"، لأنهن ربما قد شكلن تنظيم أو شبه تنظيم بشكل "سري"، ثم أن "القبيسيات" اليوم تجمعهن "منيرة القبيسي" وهي تبلغ الثالثة و السبعين من العمر وتعاني أمراضاً عدة، لذا من المتوقع أن تدب الخلافات و الانشقاقات في صفوفهن بعد وفاتها، وطبعاً الخلاف سيكون حول من سيخلفها في الرئاسة أو القيادة الروحية، وسيخجلن من الإعلان عن ذلك، لذلك سيبدأ الاجتهاد الفقهي، وقد تدعي كل واحدة من الكبيرات و هن خمسة تقريباً، أن فتاوى الأخرى غير صحيحة، وربما تورث منيرة قبل وفاتها الزعامة لاحداهن و يبقى "التنظيم" كما هو، أو قد يأخذ شكلاً سياسياً و يتعاون مع قوى معارضة، ولكن لا بوادر لذلك حالياً أبداً ، لهذا هن تحت المراقبة حسب علمه، وفي حال حصل أي شيء، فسيتم القضاء عليهن مباشرةً.
وربما يبقى الخطر القائم على احتمال أن يكون لهن علاقات سرية مع جهات دينية أخرى، رغم أنه حتى اليوم لم يظهر شيء من هذا، وأن انتماء أحد أقارب القبيسية أو زوجها إلى جماعة دينية أخرى كـ"الأخوان المسلمين" مثلاً، لا يعني بالضرورة أنها تنتمي لنفس الجهة، ولا يعني أن جميعهن كذلك، لذلك لا يمكن حصر هذه المسألة.

سعينا لإخراجهن إلى العلن..ورفضن العمل بالسياسة

وعلى الرغم مما أثارته "القبيسيات" من إشارات استفهامٍ كثيرة ضمن مختلف الأوساط، إلا أنهن حصلن على اعترافٍ من قبل جميع الأطراف التي تؤيدهن أو تعارضهن، على أنهن "جماعة" دينية، لذلك كان لا بد من التطرق إلى آراء رجال الدين لمعرفة رأيهم الديني بهذه "الجماعة"، فمن المعروف أن مفتي سوريا السابق الشيخ أحمد كفتارو يعتبر بمثابة الأب الروحي لـ"منيرة القبيسي" مما جعل "القبيسيات" مقربات جداً من "جامع أبو النور" الذي كان يشرف عليه نجل المفتي السابق الدكتور صلاح الدين، ومن الطبيعي أن نجد الموقف الإيجابي للشيخ حسن كفتارو وشقيقيه محمود وصلاح الدين من "القبيسيات"، كما أن "القبيسيات" على علاقة جيدة مع "جماعة" الشيخ عبد الكريم الرفاعي التي يدير شؤون مؤسسته ولداه سارية وأسامة في منطقة كفرسوسة بدمشق، والذي تأخذ القبيسيات من مؤسسته شهادة "ختامة" حفظ القرآن، بعد أن يخضعن لفحص من قبل شيوخ المؤسسة، والذي يكون من خلف ساتر يفصل بين الشيخ و القبيسية التي تتلو القرآن ، أما الشيخ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي فيرى ان المرأة السورية تقوم بدور مميز في الدعوة الإسلامية، لم يبلغه الرجال، وان نجاح نشاط "القبيسيات" تحقق بسبب ابتعادهن عن التيارات السياسية، والمناطق والمحاور الخلافية، والتركيز على الوحدة الإسلامية، وعلى الجانب الروحي في الإسلام مع عدم إهمال الجانب العلمي.
وبالتطرق إلى الرأي الديني الحكومي فإن وزير الأوقاف السوري الدكتور زياد الدين الأيوبي أعلن في وقتٍ سابق رفضه تسمية أتباع الداعية "منيرة القبيسي" بـ"القبيسيات"، وقال أنه من غير الممكن أنهن يحاولن استقطاب نساء المسؤولين والأغنياء لتحقيق أي نفوذ أو امتداد، وتشكيل "مظلة حماية"، توفر لهن الحصول على رخص التدريس في المدارس والمساجد.
الدكتور والنائب في البرلمان محمد حبش وخلال لقائنا معه وصف "القبيسيات" بأنهن ظاهرة "صحية وطبيعية"، وأن هناك تهويلات بما أثير حولها، فهن يقمن بإعطاء دروس دين ذات توجه معتدل غير متطرف، لأنهن لسنا تكفيريات، لكنهن يملن إلى السرية، وعدم الظهور إلى العلن نظراً لطبيعتهن المحافظة.
ويقول حبش بأنه عمل جاهداً من أجل إقناع "القبيسيات" بالظهور إلى العلن، ليبعدن الأقاويل التي تثار حولهن، كما عمل على خروجهن إلى المساجد، وإعطائهن الرخص حتى يمارسن عملهن في العلن لأن السرية مكان جيد لنمو الشائعات، حتى أنه عرض عليهن العمل في السياسة والإعلام، ولكنهن رفضن، و قررن حل اجتماعاتهن إذا ما اضطررن إلى الاشتراك في المعترك السياسي، أو الظهور على الساحة الإعلامية.
ويضيف أنه لابد من وجود أحد يتكلم باسمهن، ليشرح وجهة نظرهن، حتى لا تثار الاستفهامات والأقاويل حولهن بأنهن حركة مغلقة، ولا يفضلن الاختلاط، إلا أن هذا يأتي من كونهن محافظات، وهن بحاجة لأحد كي يدافع عنهن و يوضح صورتهن للآخرين.
ويعتقد الدكتور محمد حبش و هو مدير مركز الدراسات الإسلامية أنه لم يكن هناك داعٍ لجميع ما أثير حولهن، فهن معتدلات جداً في منهجهن و لسن تكفيريات، وليس لهن أي تعاملات مع جهات سياسية معينة أو حتى تكفيرية، يميلون إلى المحافظة، ولكن ليس لديهن مشكلة في التعامل مع الأديان و الاتجاهات الأخرى، هن منظمات جداً ولكنهن لسن تنظيم، وحتى لو كن تنظيماً فإن هذا ليس خطأ أو شيء محرم، بل هو شيء يحث عليه الدين، يقمن على احترام بعضهن البعض، و الاحترام والطاعة للآنسة منيرة القبيسي، وهذا من مبدأ احترام المعلم والكبير، واجتماعاتهن في المنازل ليست اجتماعات سرية بل يمكن لأي أحد حضورها، والتي تأتي عادةً عن طريق سؤال من أحد التلميذات و يتم الجواب عليه.
ويختم حبش بتأكيده على أن "القبيسيات" صورة "إيجابية"، فهن يسعين إلى نشر الدين بشكل جيد ومعتدل، والدمج بين الطبقات الغنية والفقيرة، عن طريق إشراك الفتيات من كافة الطبقات في الدروس الخاضعة لرقابة وزارة الأوقاف، وأن مسألة بدأهن في المناطق الراقية وبين الطبقات الغنية، لأنهن بدأن نشاطهن عن طريق المدارس الخاصة، وتعرفهن على بعضهن البعض في هذه المدارس، والتي كانت فيما سبق حكراً على الطبقة الغنية.
وبعيداً عن هذه الآراء الإيجابية إلا أن البعض ما زال يرى في "القبيسيات" "الظل النسائي" لـ"لإسلام السياسي"، في حين يعتبرها آخرون بديلاً عن منظمة "الاتحاد النسائي" الرسمية، فمن جهته يرى الدكتور محمد شحرور المختص بالشؤون الإسلامية أن ظهورهن يرجع إلى احباطات الشارع السوري عام 67 من مشاريع الحداثة، وأنهن لم يقمن على ثقافة دينية عميقة جداً.
ويضيف شحرور إلى أنه بعد العام سبعة وستين أخذت "القبيسيات" مجدهن، و حصل "شهر عسل" بينهن وبين السلطة، واصفاً "منيرة القبيسي" بأنها امرأة ذكية ولكن ثقافتها الدينية عادية جداً، ومعرفاً "القبيسيات" على أنهن "بعد" يقوم على جمع النساء جمعاً "براغماتياً" ذريعته الدين "الشعائري المتخلف".

وبغض النظر عن هذه الآراء أو تلك فإن ما يمكن تسميته بـ"ظاهرة القبيسيات"، لم تكن نشأتها اعتباطاً، أو بالصدفة، بل أن نشأتها كان تعبيراً عن الطبيعة البشرية، وحاجاتها الفطرية، لا نقصد الحاجة إلى الدين، بل إلى الانتماء، الذي غاب عن حياة السوريين في ظل غياب الحياة السياسية للدولة "العلمانية"، وحين يغيب "المجتمع السياسي" في الدولة التي من المفترض ان تتصف بالحراك، فإن المجتمع سيسعى للتعبير عن نفسه بصيغ أخرى، تعبر و ترسخ التناقضات بين هوية تلك الدولة العلمانية وواقع مجتمعها الديني.



راما الجرمقاني

No comments:

Post a Comment